سورة الرعد - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{بسم الله} الحق الذي كل ما عداه باطل {الرحمن} الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته {الرحيم} الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية {المر}.
لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال: {تلك} أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب {آيات} والآية: الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة {الكتاب} المنزل إليك {و} جميع {الذي}.
ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً، بني للمفعول قوله: {أنزل إليك} كائن {من ربك} فثبت حينئذ قطعاً أنه هو {الحق} أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره، فهو أبعد شيء عن قولهم: إن وعده بالبعث سحر، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به {ولكن أكثر الناس} أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم، {لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله، بل يقولون: إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنه تخييل ليست معاينة- كما قلنا {وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين} [يوسف: 103] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة، هذا التقدير محتمل، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 19] أن {الذي} مبتدأ، و{من ربك} صلة {أنزل} والخبر {الحق} والمقصود من هذه السورة هذه الآية، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك- كما ستقف عليه.
وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه: هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام {وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 105-106-107-108] فبيان آي السماوات في قوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} وبيان آي الأرض في قوله: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} فهذه آي السماوات والأرض، وقد زيدت بياناً في مواضع، ثم في قوله تعالى: {يغشى الّيل النهار} ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} [الرعد: 4] إلى قوله: {لقوم يعقلون} [الرعد: 4]. ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى {كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة {يسقى} بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} الآية بقوله: {وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد} ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} [الرعد: 6] الآية، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} [الرعد: 7] ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال {الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام} الآيات إلى قوله: {وما لكم من دونه من وال} ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} [الرعد: 12]، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال: {ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} [الرعد: 31] والمراد: لكان هذا القرآن {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] والتنبيه بعظيم هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} [الرعد: 31] فهو من نحو {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم} [الجاثية: 3] أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم «من عرف نفسه عرف ربه» فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات. وأما قوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] فقد أشار إليه قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى: {وقليل ما هم} [ص: 24] والمقول فيهم {أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 4] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم، وإليهم الإشارة بقوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] قال عليه الصلاة والسلام «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل» فهذا بيان ما أجمل في قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وأما قوله تعالى: {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله} [يوسف: 107] فما عجل لهم من ذلك في قوله: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله} القاطع دابرهم، والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة} [يوسف: 108] الآية، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين- كما تقدم، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم {إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38]، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} [الرعد: 43]، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام- انتهى.
فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله: {وكأين من آية} من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار- على أنه قادر على كل شيء، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة، والدالة- بما للتعبير عنها من الإعجاز- على كونها من عند الله، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل، فقال: {الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال وحده {الذي رفع السماوات} بعد إيجادها من عدم- كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع: وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع، كائنة {بغير عمد} جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود، والعمود: جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وأصله منع الميل {ترونها} أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم، هذا على أن {ترونها} صفة، ويجوز- ولعله أحسن- أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال: ما دليل أنها بغير عمد؟ فقيل: المشاهدة التي لا أجلى منها.
ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال: {ثم استوى على العرش} قال الرازي في لوامع البرهان: وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال تعالى: {ذو العرش} كما قال {ذو الجلال} و{ذو} كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ، وقال الرماني: والاستواء: الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان، وأصله: استوى التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير- انتهى. وعبر ب {ثم} لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم، أي لم يكن لهم مدافع، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم {وسخر} أي ذلل تذليلاً عظيماً {الشمس} أي التي هي آية النهار {والقمر} أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه، ولا كذلك زيد وعمرو. والتسخير: التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان {كل} أي من الكوكبين {يجري}.
ولما كان السياق للتدبير، علم أن المراد بجريهما لذلك، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول، ويتغير النبات وتضبط الأوقات، وكلما كان التدبير أسرع، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم، فكان الموضع للام لا لإلى، فعلل بقوله: {لأجل} أي لأجل اختصاصه بأجل {مسمى} هذي أجلها سنة، وذاك أجله شهر؛ والأجل: الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه.
ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة: {يدبر الأمر} أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها، لا يشغله شأن عن شأن، مع أن هذا العالم- من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى- محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد.
ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه، قال {يفصل الآيات} أي التي برز إلى الوجود تدبيرها، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته، المشتملة عليها مبدعاته، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها، وإلا فكانت على نسق واحد، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك.
ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة، علل بقوله: {لعلكم بلقاء ربكم} أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية {توقنون} أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك.


ولما انقضى ما أراد من آيات السماوات، ثنى بما فيما ثنى به في آية يوسف من الدلالات فقال: {وهو} أي وحده {الذي مد الأرض} ولو شاء لجعلها كالجدار أو الأزج لا يستطاع القرار عليها، وهذا لا ينافي أن تكون كرية، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، كما أن الجبال أوتاد والحيوان يستقر عليها {وجعل فيها} جبالاً مع شهوقها {رواسي} أي ثوابت، واحدها راسية أي ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن أماكنها لا تتحرك، فلا يتحرك ما هي راسية فيه. ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي، صارت الصفة تغني عن الموصوف فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل- قاله أبو حيان، ولما كانت طبيعة الأرض واحدة كان حصول الجبل في جانب منها دون آخر ووجود المعادن المتخالفة فيها تارة جوهرية، وتارة خامية، وتارة نفطية، وتارة كبريتية- إلى غير ذلك، دليلاً على اختصاصه تعالى بتمام القدرة والاختيار لأن الجبل واحد في الطبع كما أن تأثير الشمس واحد، فقال تعالى: {وأنهاراً} أي وجعل فيها خارجة منها، وأكثر ما تكون الأنهار من الجبال، لأنها أجسام صلبة عالية، وفي خلال الأرض أبخرة فتصاعد تلك الأبخرة المتكونة في قعر الأرض، ولا تزال تخرق حتى تصل إليها فتحتبس بها فلا تزال تتكامل حتى يعظم تكاثفها، فإذا بردت صارت ماء فيحصل بسببها مياه كثيرة كما تنعقد الأبخرة البخارية المتكاثفة في أعالي الحمامات إذا بردت وتتقاطر، فإذا تكامل انعقاد تلك المياه وعظمت شقت أسافل الجبال أو غيرها من الأماكن التي تستضعفها لقوتها وقوة الأبخرة المصاحبة لها، فإن كان لتلك المياه مدد من جهة الفواعل والقوابل بحيث كلما نبع منها شيء حدث عقيبه شيء، وهكذا على الاتصال فهي النهر، والنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار- لاتساع ضيائه.
ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عن المياه فقال: {ومن كل الثمرات} ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله، ثم يكون كأنه قيل: من ينتفع بهذه الأشياء؟ فقيل: {جعل فيها} أي الأرض {زوجين اثنين} ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوان ينتفع بها، ويجوز أن يكون متعلقاً بما بعده فيكون التقدير: وجعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى تنتفع الأنثى بلقاحها من الذكر أو قربه منها فيجود ثمرها؛ والثمرة طعمة الشجرة، والزوج: شكل له قرين من نظير أو نقيض، فكأنه قيل: ما الذي ينضجها؟ فقال: {يغشي اليل النهار} أي والنهار الليل، فينضج هذا بحره ويمسك هذا ببرده، فيعتدل فعلهما على ما قدره تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان للحر والبرد للإخراج والإنضاج إلى غير ذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهر لكل ذي عقل أنها بتدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره.
ولما ساق سبحانه هذه الآيات مفصلة إلى أربع وكان فيها دقة، جمعها وناطها بالفكر فقال: {إن في ذلك} أي الذي وقع التحديث عنه من الآيات متعاطفاً {لآيات} أي دلالات واضحات عجيبات باهرات على أن ذلك كله مستند إلى قدرته واختياره، ونبه على أن المقام يحتاج إلى تعب بتجريد النفس من الهوى وتحكيم العقل صرفاً بقوله: {لقوم} أي ذوي قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه {يتفكرون} أي يجتهدون في الفكر، قال الرماني: وهو تصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يُخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن فيه، والختم بالتفكر إشارة إلى الاهتمام بإعطاء المقام حقه في الرد على الفلاسفة، فإنهم يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، وهو كلام ساقط لمن تفكر فيما قرره سبحانه في الآية السالفة من إسقاط وروده من أنه سبحانه هو الذي أوجد الأشياء كلها من عدم ثم أخذ في تدبيرها، فاختصاص كل شيء من الأجرام العلوية بطبع وصفة وخاصية إنما هو بتخصيص المدبر الحكيم الفاعل بالاختيار، فصار وجود الحوادث السفلية لو سلم أنه متأثر عن الحوادث العلوية إنما يكون مستنداً إليها باعتبار السببية، والسبب والمسبب مستند إلى الصانع القديم المدبر الحكيم.
ولما كان الدليل- مع وضوحه- فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة، فقال: {وفي الأرض} أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك {قطع متجاورات} فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، ومع انتظام الكل في الأرضية {وجنات} جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار {من أعناب} وكأنه قدمها لأن أصنافها- الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد- لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها.
ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال: {وزرع} أي منفرداً- في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع، وفي خلل الجنات- في قراءة الباقين بالجر.
ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله: {ونخيل صنوان} فروع متفرقة على أصل واحد {وغير صنوان} باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان: والصنو: الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو وقال الرماني: والصنوان: المتلاصق، يقال: هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل: الصنوان: النخلات التي أصلها واحد- عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه: الصنوان: النخلتان أصلهما واحد- انتهى.
وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب.
ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال: {ويسقى} أي أرضها الواحدة كلها {بماء واحد} فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه {ونفضل} أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة {بعضها} أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها {على بعض} ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله: {في الأكل} أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة.
ولما كان المراد في هذا السياق- كما تقدم- تفصيل ما نبه على كثرته بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} الآية، قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي تقدم {لآيات} بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى: دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى.
ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال: {لقوم} أي ذوي قوة على ما يحاولونه {يعقلون} فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل: وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل.


ولما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده، كان إنكار شيء من قدرته عجباً، فقال عطفاً على قوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [هود: 17] مشيراً إلى أنهم يقولون: إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له {إن تعجب} أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من إنكارهم البعث {فعجب} عظيم لا تتناهى درجاته في العظم {قولهم} بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين: {إذا كنا تراباً} واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا: {إنا لفي خلق جديد} هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى {أنبعث}، والعجب: تغير النفس بما خفي سببه عن العادة، والجديد: المهيا بالقطع إلى التكوين قبل التصريف في الأعمال، وأصل الصفة القطع؛ قال الرماني: وقد قيل: لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب- انتهى، يعني: فالكفار تعجبوا من غير عجب: ومن تعجبهم فقد تعجب من العجب.
ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك، فقال: {أولئك} أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير {الذين كفروا بربهم} أي غطوا كل ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم {وأولئك} أي البعداء البغضاء {الأغلال} أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم، ويقال لها: جوامع، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها، وذلك كناية عن ضيقها، فقال: {في أعناقهم} أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده، والغل: طوق تقيد به اليد في العنق، وأصله: انغل في الشيء- إذا انتشب فيه، وغل المال- إذا خان بانتشابه في المال الحرام {وأولئك} أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم {أصحاب النار}. ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة، صرح بها فقال: {هم} أي خاصة {فيها} أي متمحضة لا يخلطها نعيم {خالدون} أي ثابت خلودهم دائماً.
ولما تضمنت هذه الآية إثبات القدرة التامة مع ما سبق من أدلتها المحسوسة المشاهدة، كان أيضاً من العجب العجيب والنبأ الغريب استهزاءهم بها، فقال معجباً منهم: {ويستعجلونك} أي استهزاء وتكذيباً؛ والاستعجال: طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له {بالسيئة} من العذاب المتوعد به من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جرأة منهم تشير إلى أنهم لا يبالون بشيء منه ولا يوهن قولهم شيء {قبل الحسنة} من الخير الذي تبشرهم به {و} الحال أنه {قد خلت} ولما كان المحدث عنه إنما كان في بعض الزمان، أدخل الجار فقال: {من قبلهم المثلات} جمع مثله بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وهي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله من الأمم الذين اتصلت بهم أخبارهم، وخاطبتهم بعظيم ما اتفق لهم آثارهم وديارهم، وما يؤخرهم الله إلا لاستيفاء آجالهم التي ضربها لهم مع قدرته التامة عليهم.
ولما كانوا ربما قالوا: ما نرى إلا تهديداً لا يتحقق شيء منه: قال مؤكداً لإنكارهم واعتقادهم أن المسار والمضار إنما هي عادة الدهر، عطفاً على ما تقديره: فإن ربك حليم لا يخاف الفوت فلا يستعجل في الأخذ: {وإن ربك} أي المحسن إليك بجعلك نبي الرحمة {لذو مغفرة} أي عظيمة ثابتة {للناس} حال كونهم ظالمين متمكنين في الظلم مستقلين {على ظلمهم} وهو إيقاعهم الأشياء في غير مواضعها، فلا يؤاخذهم بجميع ماكسبوا {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [النحل: 61] فلذلك يقيم الناس دهراً طويلاً يكفرون ولا يعاقبون حلماً منه سبحانه، والآية مقيدة بآية النساء {ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وإن لم يكن توبة، فإن التائب ليس على ظلمه.
ولما كان يمهل سبحانه ولا يهمل وذكر إمهاله، ذكر أخذه مؤكداً لمثل ما مضى فقال: {وإن ربك} أي الموجد لك المدبر لأمرك بغاية الإحسان {لشديد العقاب} للكفار ولمن شاء من غيرهم، فلذلك يأخذ أخذ عزيز مقتدر إذا جاء الأجل الذي قدره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6